إن ذلك القميص أو المعطف وجراب القطن الناعم الذي يوضع قبل ارتداء الحذاء ليس في الحقيقة الا نتاج سلسلة إمداد شارك فيها آلاف العمال وقدموا خلالها التضحيات من أجل منتوج نهائي يستجيب للمواصفات. والحقيقة أن سلسلة الامداد تلك بما فيها من انعدام عدالة، لم تكن إلى زمن قريب محل اهتمام أي مستهلك حيث لا يمثل مسار تصنيع اللباس باي شكل من الأشكال أحد معايير الاختيار.
في مواجهة الشركات العلمية
غير أن هذا الأمر بدا يتغير مؤخرا بعد تنامي ظاهرة الاهتمام بما يعانيه العمال خلال عملية الانتاج. وقد يكون “الفضل” في هذا إلى تعدد الحوادث وتنامي الفواجع التي يتعرض لها العمال ولعل الأمثلة الأبرز التي تحضرني الآن هي العمال الذين لقوا حتفهم في بنغلاداش سنة 2013 بعد تهدم مبنى مصنع يضم آلاف العمال، وعمال النسيج في المغرب الذين غرقوا في مصنع عشوائي في قبو بعد أن داهمتهم الأمطار في طنجة سنة 2021. وقد مثلث هذه الكوارث محفزا للضمير العالمي بأن هناك ما يمكن فعله لوقف سطوة راس المال الليبرالي ولفرض ما أمكن من منسوب العدالة وشروط العمل اللائق. وقد لا نبالغ بالقول أننا ربما إزاء بداية استعادة الفرد المستهلك لدوره كفاعل مهم في عمليات التصنيع والتبادل. فرد قد يكون له من الصلابة والتماسك ما يمكنه لا فقط من مواجهة الشركات العابرة للقارات بل وفرض شروطه أيضا وهي احترام حقوق العمال.
الاحتكارات والهوية والفرد
لقد شهدت التسعينات والعشرية الأولى من القرن الحالي ذروة سطوة التركزات المالية الكبرى أو ما يعرف بالشركات العابرة للقارات. فقد تمكنت هذه الشركات من الغاء وحصار كل صناعة منافسة لها كما اقتلعت لنفسها مجالا واسعا للتدخل في السياسات العالمية والإقليمية وذلك في سياق التركز والاحتكار الذي طبع الاقتصاد العالمي. وقد لا نحتاج إلى الكثير من الأمثلة للاستدلال أن فترة العولمة كنظام عالمي بدأ يستقر بوضوح مع نهايات التسعينات، كان مناخا خصبا لتركز الإنتاج وامتلاك الثروة وظهور الشركات العابرة للقارات وسنكتفي في هذا الصدد بالإشارة إلى أن 01 بالمائة من سكان العالم يمتلكون 82 بالمائة من الثروة وفق تقرير اوكسفام لسنة 2018. ما يهمنا أن العولمة كانت مرحلة لازدهار الشركات العابرة للقارات وهي شركات لعبت دورا كبيرا لا فقط في تشكيل السياسيات الاقتصادية العالمية بل في تشكيل هويات الأفراد. لقد كان لعمليات التسويق الواسع وتطور الاشهار وظهور المساحات التجارية الكبرى، دورا بارزا في ضرب حصر استهلاكي على الأفراد داخلا البلدان المتقدمة وحتى داخل البلدان النامية مما أدى الى ظهور الهوس الاستهلاكي. وفي هذا الصدد يقول زيغمونت باومان في كتاب الحداثة السائلة يؤكد تراجع دور الفرد في معمعان الاستهلاك حيث يقول إن “حياة استهلاكية تجعل من العالم، بكل أحيائه وجماداته، موضوعات للاستهلاك، تفقد نفعها بمجرد استخدامها، فتفقد سحرها وجاذبيتها وإغراءها، وتتشكل معايير تقييم الأفراد وفق قدرتهم على الاستهلاك، أي أنك كلما استهلكت ارتفعت قيمتك، وهكذا، ففي عالم حديث سائل، فإن الفرد يقبع تحت الحصار من قِبل كل الأحوال التي تمنيه بالحرية، ولكنها في الحقيقة تحاصره بخلق الاحتياج”.
الحركة مازالت ممكنة
في وسط هذا العالم الذي وصفه زيغمونت باومان بدقة مذهلة توجد الكثير من الاستثناءات التي تعلن من حين إلى آخر أن ذلك الفرد القصوي في فردانيته قد يتمكن من تشكيل تجمعات مقاومة لسطوة السوق ولسلطة رأس المال بمختلف صيغه. وفي هذا الصدد تمثل التحركات العالمية والشبابية على وجه الخصوص في مواجهة العولمة والتحركات العالمية من أجل المناخ نقاطا مضيئة تقطع مع الأنانية وتؤسس للفعل المشترك المتضمن لمبادئ وقيم أرقي من المصلحة الخاصة والفردية. وفي هذا السياق تأتي حركة الثياب النظيفة وهي حركة تريد أن يكون اللباس نظيفا اجتماعيا.
ووفق هذه الحركة فإن اللباس الذي يرتديه العامل دون حقوق مادية ودون الحق النقابي وبشروط غير لائقة تعد ثيابا وسخة. ولتكون الثياب نظيفة يجب أن تصنع في مصانع وسلاسل تزويد تحترم حقوق الانسان بحد أدني يتمثل في كل ما تضمنه الإعلان العالمي لحقوق الانسان. لقد تأسست حملة الثياب النظيفة في هولاندا سنة 1989 وقد طورت شبكة علاقاته مع الجمعيات المدنية لتضم حوالي 235 جمعية تنشط في 45 دولة وتضم النقابات والمصنعين والمنظمات النسوية بهدف الربط بين العمال وتمكنت من خلال هذه الشبكة أن تساعد العمال والنقابات. واضافة إلى الأفراد فإن الأطر التي لعبت دورا كبيرا في مشروع بناء جدار واق للعمال من منطق الربح هي النقابات ممثلة في النقابات المحلية أو الدولية مثل الاتحاد الدولي للصناعات حيث تمكنت هذه الأطر من صياغة اتفاقات دولية مهمة رغم طابعها غير الملزم.
المستهلك حليف النقابات
لقد احتضنت تونس من 20 الى 23 سبتمبر 2022 اجتماع شبكة انديتاكس (شركة عالمية لتصنيع الملابس لثماني ماركات أبرزها زارا) وهو اجتماع نظمه الاتحاد الدولي للصناعات يهدف بالأساس الى التعريف بالاتفاقات الدولية مع انديتاكس ومع عدد آخر من الشركات وهي اتفاقات دولية فيها ضمانات لحقوق العمال في ما يتعلق بالأجر والحق النقابي وشروط الصحة والسلامة المهنية وتطبيق المعاير الدولية لحقوق العمال. وقد حضرت الاشغال فيرونيكا كميرار مديرة السياسات في مؤسسة اكورد وهي مؤسسة تأسست مباشرة بعد حادثة سقوط المصنع في بنغلاداش في 2013 هدفها منع تكرار ذلك الحادث وقد انخرط في هذا الاتفاق 178 ماركة عالمية كما حضر فيكتور جيرادو المنسق العالمي للاتفاقية الاطارية العالمية بين شركة انديتكس والاتحاد الدولي للصناعات. وشاركت أيضا السيدة شيرين ايسات ممثلة مؤسسة “ايسس” لتبسط اتفاقا جديدا يسير في نفس اتجاه ضمان احترام حقوق العمال. وقد كانت مجمل الاتفاقيات المعروضة نتيجة لجهد نقابي ولكنها أيضا ثمرة ضغط حملات مدينة من مستهلكين أفراد رفضوا أن تكون ثيابهم النظيفة، ملطخة بأوحال الاستغلال الاجتماعي والحيف ولعلنا نكون أمام لحظة فارقة من التاريخ يسترجع من خلالها الفرد مكانته كفاعل اجتماعي واقتصادي مؤثر عبر التضامن وذلك من مدخل أنبل القضايا وهي الدفاع عن حقوق العمال.